سورة الرحمن - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرحمن)


        


{وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)} [الرّحمن: 55/ 46- 61].
لمن خاف قيامه بين يدي ربّه للحساب، بالكفّ عن المعاصي والتزام الطاعات:
نعمتان كبريان: روحية ومادية، أما الروحانية: فهي رضا الله تعالى كما في قوله: {وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التّوبة: 9/ 72]. وأما المادية: فهي جنّتان تشتملان على متع الدنيا في الشكل، لكنها أسمى منها وأفضل، فهما جنّتان لا جنّة واحدة. فبأي نعم الله تكذبان أيها الثّقلان؟ فإن نعم الجنان لا مثيل لها، فضلا عن دوامها. وهذا دليل على أن الجن المؤمنين يدخلون الجنة إذا اتّقوا معاصي ربّهم وخافوه.
وللجنتين الماديتين أغصان الأشجار وأنواع الثمار، فبأي نعم ربّكما أيها الإنس والجنّ تكذّبان؟
وقد نزلت آية: {وَلِمَنْ خافَ} فيما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال: في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه.
وفي كل من الجنتين عين جارية، لسقي الأشجار والأغصان، والاثمار من جميع الأنواع، فبأي نعم ربّكما معشر الجنّ والإنس تكذبان؟ فتلك حقيقة قاطعة، وواقع ملموس.
وفي هاتين الجنّتين من كل فاكهة صنفان، يستلذّ بكل واحد منهما، أحدهما: رطب، والآخر يابس، لا يتميز أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب، خلافا لثمار الدنيا، بل فيهما مما يعلم وخير مما يعلم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فبأي هذه النعم تكذبان أيها الإنس والجنّ؟ وهي نعم واقعية وثابتة.
ثم بعد الطعام ذكر الله الفراش، فهؤلاء الخائفون من عصيان الله يتنعمون على فرش بطائنها (وهي ما تحت الظهائر) من إستبرق (ما غلظ من الدّيباج) وثمر الجنّتين أو المجتنى قريب التناول. فبأي شيء من هذه النّعم يحصل التكذيب والإنكار؟! وكلمة {مُتَّكِئِينَ} إما حال من محذوف تقديره: يتنعمون متكئين، وإما من قوله تعالى: {وَلِمَنْ خافَ}. والاتّكاء: جلسة المتنعّم المتمتّع.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له: بطائنها من إستبرق، فما الظواهر؟ قال: ذاك مما قال الله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السّجدة: 32/ 17] وكذلك قال. والجنى: ما يجتنى من الثمار، ووصف بالدنوّ لأنه فيما روي في الحديث يتناوله الرجل على أي حالة كان، من قيام أو جلوس أو اضطجاع، لأنه يدنو إلى مشتهيه. ثم وصف الله الحور العين في الجنّتين، فقال: {فِيهِنَّ قاصِراتُ} أي في الجنّتين الحور العين اللاتي قصرن ألحاظهن على أزواجهن، لم يفتضضهنّ قبلهم أحد من الإنس أو الجن. ويقال لدم الحيض ولدم الافتضاض: طمث، فإذا نفي الطمث فقد نفي القرب منهن على جهة الوطء.
والضمير في قوله: {فِيهِنّ} عائد للجنات، إذ الجنّتان جنات في المعنى. فبأي النّعم تكذبان أيها الثّقلان؟! ومعنى قوله: {وَلا جَانٌّ} يحتمل أن يكون اللفظ مبالغة وتأكيدا، كأنه تعالى قال: لم يطمثهن شيء. ويحتمل أن الجن قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوج الله تعالى، فنفى في هذه الآية جميع المجامعات.
ثم وصف الله نساء الحور بكأنهن الياقوت صفاء، والمرجان بياضا أو حمرة، فبأي شيء من نعم الله تعالى تكذبان أيها الإنس والجن؟
ثم بيّن الله سبب هذا الثواب، بقوله: { هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ} أي ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة، فبأي شيء من نعم الله تكذبان معشر الجن والإنس؟ وهذه آية وعد وبشرى لنفوس جميع المؤمنين، لأنها عامة.
نعم أخرى على المتقين في الآخرة:
تابع الله تعالى في سورة الرّحمن سرد أوصاف النعيم المادية للمتقين الخائفين من معاصي الله، المقدمة لهم يوم القيامة، ففي الآيات السابقة بيّن الحق تعالى أن ثواب الخائفين جنّتان. وفي هذه الآيات ضمّ إليهما جنّتان أخريان لمن كان دون المتّقين في الرتبة والفضيلة، ولكنهما خضراوان، وفوّارتان بالماء، ومشتملتان على أنواع الفاكهة اللذيذة، والخيرات الحسان وهي أفضل النساء، وهن عذارى، وأهل هاتين الجنتين متكئون على وسائد مخضرة وبارعة الحسن والجمال، وكل ذلك من الله تعالى المتّصف بالعظمة والجلال، المتنزه عن كل ما لا يليق به، ومصدر هذا الإنعام والفضل على عباده، كما تصوّر لنا هذه الآيات:


{وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)} [الرّحمن: 55/ 62- 78].
ومن دون الجنّتين المتقدمتين في بيان سورة الرّحمن في المنزلة والقدر: جنّتان أخريان. والجنّتان الأوليان: جنّتا السابقين، والأخريان جنّتا أصحاب اليمين. فبأي شيء من النّعم الإلهية تكذّبان أيها الإنس والجنّ؟
والجنّتان شديدتا الخضرة، من شدة الرّي المائي. فبأي نعم الله تكذبان معشر الجن والإنس؟
وفي الجنّتين عينان فيّاضتان فوّارتان بالماء العذب، فهناك جنّتان تجريان بالأنهر، وجنّتان فوّارتان، والجري أقوى من النّضخ. فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟
وفي هاتين الجنّتين نساء جميلات، خيّرات الأخلاق، حسان الوجوه، فبأي نعم الله تكذبان أيها الجن والإنس؟! وهؤلاء النساء الخيرات، حور شديدات البياض، واسعات الأعين، مع شدة السواد وشدة البياض وصفائه، مخدرات محجّبات مستورات في خيام الجنّة، المكونة من الدّر المجوفة. والخيام: البيوت من الخشب، لا يتبذلن في شارع ولا سوق، ولا يخرجن لبيع أو شراء، وهنّ مقصورات على أزواجهن، لا ينظرن إلى رجال غيرهن.
وهذه هي المرأة المحببة للرجال، خلافا لأذواق المنحلّين اليوم.
ولم يمسّهن ولم يجامعهن قبل ذلك أحد من الإنس والجن، توفيرا للمتّقين الخائفين ربّهم، فبأي نعم الله تكذبان؟
وهؤلاء الأتقياء البررة متكئون على وسائد خضراء، وبسط منقوشة بديعة، فاخرة الصنع، فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟! ويلاحظ أن أثاث الجنّتين الأوليين أرفع من هذه الصفة، فإنه تعالى قال فيهما هناك: {مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} فبأي شيء من هذه النّعم تكذّبان معشر الجنّ والإنس؟! وختمت الصفات المتقدمة في الجنّتين الأوليين ببيان سببها وهو: أن استحقاق هذا الفضل والإحسان جزاء الإحسان المتقدم في الدنيا.
وهنا ختمت هذه الصفات والسورة كلها بالإقرار بمصدر هذا الفضل، وهو الله تعالى الذي تنزه عن كل ما لا يليق به، فهو المتفرّد بصفات العزّة والعظمة، وإكرام عباده المخلصين، وهو أحقّ بالعبادة والإجلال فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى. وهذه الخاتمة تدلّ على بقاء أهل الجنة ذاكرين اسم الله، منزهين له، مستمتعين به. وأما أوصاف نعيم الدنيا فختمت بما يشير إلى فناء كل شيء من الممكنات يوم القيامة مع بقاء الله: {وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27)}.
وفي الجملة: هناك لأهل التقوى أربع جنان ذات منازل مختلفة، اثنتان منهما للمقرّبين السابقين، واثنتان دونهما في المكانة والمنزلة لأصحاب اليمين. والفروق واضحة بين كل من النوعين، وذلك دليل على إقامة صرح العدالة في الثواب والتكريم، فلا يستوي كل فريق مع الآخر، مع تفاوتهما في العمل الصالح، وممارسة كل مظاهر التقوى، وأعمال البر في الدنيا، مما يؤهل كل فريق لما أعدّه الله له من الإحسان والنّعم الموافية لعمله.

1 | 2